الهاتف: 961 71015563 | البريد الألكتروني: info@rmeich.org
شهد لبنان في العام 2015 نقلة نوعية في تعامل بعض وزاراته وأجهزته مع ملف الفساد في ظل زيادة الوعي لدى الشعب حيال التداعيات السلبية لهذه الظاهرة. فالحراك المدني، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، تجرأ على تسمية الأمور بأسمائها، فارضاً بذلك نوعاً جديداً من التعامل مع الفساد الذي يكلّف خزينة الدولة اللبنانية المليارات سنوياً.
يسبب الفساد خسارة عالمية تتراوح بين 1,5 و2 تريليوني دولار سنوياً نتيجة ما يمثّل من نسبة تصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بحسب صندوق النقد الدولي. فهذه الظاهرة تقود إلى انخفاض معدلات النمو وزيادة عدم المساواة في الدخل وتآكل أوسع في المجتمع، والأهم أنها تقوّض الثقة في الحكومات. وفي أحد تقاريرها تكشف منظمة الشفافية الدولية أن ثلثي الدول البالغ عددها 168 دولة على مؤشر مدركات الفساد 2015 سجلت ما دون 50 نقطة، وذلك على مقياس يتراوح من صفر إلى 100. (المستوى الأعلى الذي يعني أن المجتمع نظيف من الفساد). كما يعيق الفساد سير سياسة الموازنة السنوية والمالية العامة ويضعف الرقابة المالية، مشيراً الى أن الفساد قضية حاسمة في تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي. ويرى الصندوق 'أن لا وصفة واحدة لجميع الدول لمحاربة الفساد، لكن على كل الدول أن تلتزم الشفافية الضريبيّة والماليّة، وتعزز سيادة القانون وتنفذ إطاراً قانونياً واضحاً لدى كل المؤسسات'. وفي تصنيفها لعام 2015، أصدرت منظّمة الشفافيّة الدوليّة مؤشّر مدركات الفساد وقامت من خلاله بتقييم 168 بلداً في العالم لجهة مستوى الفساد المدرك في القطاع العامّ إستناداً إلى نتيجةٍ تتراوح بين صفر (فاسد للغاية) ومئة (غير فاسد). وأظهر التقرير أن لبنان احتل المرتبة 123 في العالم، متقدّماً بذلك من المركز 136 الذي كان يشغله في العام 2014.
لا شك في أن ظاهرة الفساد مُكلفة، ويؤكد بعض الخبراء أن كلفة الفساد على إقتصاد دولة معيّنة قد تتراوح بين 5 و40% من ناتجها المحلّي مع معدل 30% للدول الناشئة أو في طور النمو. وتختلف أنواع الفساد والطرق المُعتمدة وتتراوح الوسائل بين ما يُعرف بـ'بقشيش بسيط' إلى مبالغ تفوق عشرات مليارات الدولارات. فبحسب البنك الدولي تصل فاتورة الرشاوى في العالم الى ما يقارب تريليون دولار سنوياً، الجزء الأكبر منها في القطاعات العامة للدول الناشئة، فيما تقدّر المؤسسة قيمة الخسارة على اقتصادات هذه الدول بما يقارب 400% من ناتجها المحلي الإجمالي. والفساد يُعرّف بإساءة إستعمال السلطة لغرض الإثراء الشخصي. وتكمن أسبابه في غياب الإدارة الرشيدة والتي تحوي الإطار التشريعي غير الملائم، النظام قضائي غير الفعال، غياب الشفافية؛ غياب سياسات محاربة الفساد؛ الضعف المؤسساتي لمؤسسات الدولة و/ أو المؤسسات الخاصة؛ الأجور المنخفضة لبعض المراكز الحساسة، والثقافة المحلية.
قبل أيام فجّر وزير الاقتصاد والتجارة المستقيل الدكتور الان حكيم قنبلة على حسابه في 'تويتر' فنشر تغريدة كشف فيها أن الفساد يكلف الدولة اللبنانية 10 مليارات دولار سنويا منها 5 مليارات خسائر مباشرة. ودعا الى إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد في لبنان تضم مراقبين دوليين. والخسائر المباشرة تعني الأموال التي كان من المفروض أن تدخل خزينة الدولة ولكنها خرجت من الدورة الاقتصادية والمالية وحُرمت منها الخزينة. أما الخسائر غير المباشرة فهي تلك المتعلّقة بالفرص الاقتصادية الضائعة التي كان بإمكان هذه الاموال تأمينها لولا خروجها من الدورة الاقتصادية والمالية المنظمة والشرعية. وإستنادا الى الدراسات التي ارتكز عليها الوزير حكيم لتخمين حجم الفساد في لبنان تأتي الخسائر المُباشرة نتيجة الفساد في العديد من المرافق العامة التي تغيب عنها الرقابة والشفافية. ويأتي الفساد من مصادر عدة: التخمين العقاري، الجمارك، الوزارات والمؤسسات التي تُقدم خدمات، الأملاك البحرية والنهرية، المخالفات، الضرائب، الرسوم، التهرّب الضريبي، المناقصات وغيرها.
هذه الأموال التي 'تسرّب خارج المنظومة الاقتصادية'(Fuite Du Circuit Economique) كان يمكن إستثمارها أو إستهلاكها ضمن الماكينة الاقتصادية ما كان ليعود على الاقتصاد بالفائدة من كل النواحي.
كما يعتبر الفساد المسؤول الأول عن غياب الإستثمارات الخارجية والأجنبية عن البلاد، اذ أن المستثمر يفضل الاسواق التي يقل فيها حجم الفساد للإستثمار، فالفساد يعيق عمل وتطور ونمو الشركات. كما يطاول الفساد أيضاً عدداً من القضايا التي تتعلق باللجوء السوري في لبنان. ومن أبرز انواع الفساد في هذا المجال المنتجات والصناعات المهرّبة من لبنان واليه عبر القنوات والمعابر غير الشرعية ما يحرم خزينة الدول الملايين سنوياً، بالاضافة الى مشكلة اليد العاملة غير المنظمة التي اجتاحت سوق العمل اللبناني وما حرم خزينة الدولة من إيرادات تُجبى كضرائب دخل، بالاضافة الى الخسائر التي يتحمّلها المواطن جراء استبداله بعامل غير لبناني، مع الحديث عن سوق عمل موازية تنتشر حالياً في لبنان، وتضاف الى كل ذلك أزمة المعامل غير الشرعية على الأراضي اللبنانية من دون أن تستفيد منها الدولة أو المواطن اللبناني. كما يدخل الفساد في الشأن العام من باب المناقصات وغياب الشفافية والوضوح عند إتمامها، وهذا الأمر ظهر جلياً مثلاً في ملف النفايات والعروض 'الملغومة' التي كانت لتحل بالدولة خسائر بالملايين في حال إقرارها. وعلى صعيد التوظيف في القطاع العام، يُعتبر الفساد عاملاً أساسياً في ارتفاع كتلة الأجور التي ارتفعت من 3970 مليار ليرة في العام 2008 إلى أكثر من 7000 مليار ليرة في العام 2015. ومن عوامل الفساد في لبنان أيضاً الضرائب والفواتير والرسوم غير المُحصّلة من المواطنين وهي مستحقات للدولة لدى المواطنين وتقدر بنحو 5,4 مليارات دولار.
الفساد المُستشري في لبنان يبقى عقبة أساسية امام التطور الاقتصادي والإجتماعي، كذلك يلعب دور الكابح لدور الدولة في صقل الماكينة الاقتصادية وهذا ما يُلاحظ من غياب الخطط الاقتصادية منذ 16 سنة ومع غياب الموازنة التي تعيد تنظيم الوضع المالي العام في البلاد. من هنا تظهر جلياً ضرورة إقرار هذه الموازنة، بالاضافة الى إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد على مثال خطة 'اليد البيضاء' التي قام بوضعها وزير العدل في إيطاليا في منتصف تسعينات القرن الماضي.
المصدر: النهار
الاشتراك في الرسائل الإخبارية !
يرجى إدخال البريد الإلكتروني الخاص بك و الاسم للانضمام.
لإلغاء الاشتراك اضغط هنا ».