الهاتف: 961 71015563 | البريد الألكتروني: info@rmeich.org
تصدّع ركائز المنتظم الدولي والحرب العظمى القادمة
إعداد: جوزيف السخن
باحث في العلوم السياسية
المقدّمة
كثيرًا ما يُقال إنّ قبل كل انهيارٍ عظيمٍ للقوى القائمة هناك فترة من السلام، وقبل كل صعود عظيم لقوى جديدة هناك فترةٌ من الاضطرابات. حاليًا، تواجه بنية المنتظم الوستفالي[1] أزمة منهجية إلى حد ما، تخضع ركائزه باستمرار لضغوطات من القوى التي لم تعد تتّفق على قواعد اللعبة أو قواعد التفاعل السياسي بداخله. وعلى الرغم من عدم التوصّل إلى بديل متّفق عليه، وبخاصة بين القوة القائمة أي الولايات المتحدة الأميركية، والقوى الصاعدة كالصين وروسيا، بدأت ركيزة الدولة القومية التاريخية، صاحبة السيادة المطلقة تشهد تحدّيًا من قبل فاعلين لا يمتلكون عنصر السيادة، ولكن يمتلكون قدرات موازية لقدرات الدول. ففي السنين العشر القادمة، لم تعد بنية المنتظم متجانسة، لأنّ من كان يحتكر الساحة الدَولية في السابق، سيتشاركها مع عدد آخر من الفاعلين من غير الدول، بعضها يمتلك قدرات اقتصاديةً هائلةً، كالشركات العابرة لحدود الدول، وبعضها يمتلك قدرات عسكرية نوعية، كالتنظيمات الإرهابية المتطرّفة.
وتعود هذه التحوّلات البنيوية إلى الدور الجوهري الذي تؤدّيه الابتكارات التكنولوجية في مسار توازن القوى العالمي، أي في استقرار المنتظمات الدولية، سواء من حيث تأثيرها على نمط توزّع القوّة أو على طبيعة الفاعلين في بنية المنتظم الدولي. فلا فرق بين منتظم وآخر، إلّا في نمط توزّع القوّة، وطبيعة الفاعلين أو القوى الرئيسة في بنيته الفوضوية، لأنّ الابتكارات التكنولوجية تعزّز القدرات الاقتصادية والعسكرية ووضعية القوى في المنتظم الدولي، وهذا سيؤدّي إلى تغيّر في توزّع القوّة أي في نمط توازن القوى العالمي. أما الذي ميّز الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهو محاولة ألمانيا تغيير مسار توازن القوى مرتين، أي تغيير نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم التي تتلاءم مع رؤيتها للسلام أو الاستقرار العالمي، بعد أن ارتفعت قوّتها الصناعية والاقتصادية والعسكرية، ما دفعها إلى التوسّع إقليميًا بحثًا عن أسواق اقتصادية، وأدّى في المحاولتين إلى نشوب حرب عظمى. بعدها أتت الحرب الباردة كتوازن قوىً بين قطبين، وكان الوضع مستقرًا نسبيًا إلى أن اتّسعت الفجوات الإنتاجية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بينهما، وانتهت بصمود القطب الليبرالي بقيادة واشنطن، وسقوط القطب الاشتراكي بقيادة موسكو. وظلّ دور الابتكارات التكنولوجية وتأثيرها يرتفعان، مع دخول عالمنا في القرن الحادي والعشرين مسار التوازن العالمي بين القوى العظمى، مع صعود بكين وموسكو اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، وبشكلٍ أكبر على حجم الاختلافات الثقافيّة بينها وبين القوى القائمة كواشنطن من جهة، والتنظيمات الإرهابية المتطرّفة العابرة للحدود من جهة أخرى، التي يمتلك كل منها رؤية مختلفة لنمط السلام أو الاستقرار العالمي في المنتظم الدولي. من هنا، نطرح الإشكالية الرئيسة التالية: هل ترفع التحوّلات التكنولوجية والجيواقتصادية والثقافية للقوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي من احتمال نشوب حرب عظمى جديدة بينها؟
سنقوم أوّلًا بوضع إطار نظري يشرح العلاقة بين الابتكار والتطوّر التكنولوجي، وتحوّلات نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الدولي، ومسار التوازن العالمي، مع تحديد المفاهيم العلمية المطروحة بالإشكالية الرئيسة كتحديد ماهيّة السلام العالمي. بالتوازي مع ذلك، سنلجأ لمقارنة أحداث تاريخيةٍ مهمة وأخرى حالية لتحديد العلاقة بين التحوّلات التكنولوجية وفهمها وصعود القوى العظمى وسقوطها صناعيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولاستخلاص تأثيرها العام على انهيار المنتظمات الدولية وقواعد التفاعل السياسي، وصولًا إلى الإجابة عن الإشكالية الرئيسة، أي تحديد النتيجة المحتملة في المستقبل لتصدّع بنية المنتظم الدولي حاليًا نتيجة بروز قوى تمتلك رؤى متناقضة للسلام العالمي، أي لنمط توزّع القوّة العالمي.
لذلك، ارتأينا أن نتناول في الفقرة الأولى، دور الابتكارات التكنولوجية الجوهري في تغيير توزّع القوّة في بنية المنتظم. من خلال الإحاطة أوّلًا، بتحوّلات القوّتين الأفقية والعمودية وعلاقتها بالسلام العالمي. وثانيًا، سنراقب أثر الابتكار التكنولوجي والنّمو الاقتصادي في التوازن العالمي. أمّا في الفقرة الثانية، سنطرح مستقبل المنتظم الدولي، بين الحرب أو المنافسة كطريق للسلام العالمي. وذلك أولًا، من خلال دراسة مسار العولمة التكنولوجية وتأثيرها في مراكز التوازن العالمي في القرن الحادي والعشرين، وبشكل خاص بين بكين وواشنطن. أما ثانيًا، سنحدّد التحدّيات الحالية التي تضغط على بنية المنتظم وهل ستكون نتيجة ذلك حرب عظمى أم منافسة مستمرة بين أربع رؤى متناقضة للسلام العالمي؟
الابتكارات التكنولوجية المحرّك الأساسي للقوّة في بنية المنتظم
أولًا: تحوّلات القوّتين الأفقية والعمودية والسلام العالمي
إنّ الركيزة الأساسية التي يقوم عليها كل منتظم دولي ويتميّز بها هي نمط توزّع القوّة بين الوحدات التي تتفاعل في بنيته بشكل دائم ومتين. لذلك، يفترض أن ينطلق كل تحليل للتوازن العالمي أو السلام العالمي من دراسة دقيقة لنمط توزّع القوّة وتحوّلاتها في بنية المنتظم، لأنّ كل تغيّر لتوزّع القوّة والنفوذ ستلحظه بنية المنتظم، كصعود لقوىً وانحدار لقوىً أخرى، سيغيّر مسار التوازن العالمي بين القوى التي هي في حالة دائمة من الصراع أو المنافسة. بمعنى آخر، إنّ التوازن العالمي ليس مسارًا جامدًا، بل ديناميكيًا أو متحركًا، له وظيفةٌ أساسيةٌ في تثبيت الاستقرار أو السلام العالمي من خلال المحافظة على فوضوية بنية المنتظم - أي عدم وجود حكومة عالمية، وهو أمر يترجم في استقلالية القوى العظمى، التي تسعى دائمًا لزيادة قوّتها حتى لا تخضع لسلطة أعلى منها. لذلك، فإنّ تحقيق الاستقرار العالمي لا يعني إنهاء الحروب، إنّما قبول القوى بنمط توزّع القوّة أو توازنها، وترجمة هذا الرضى بالتزامها قواعد اللعبة أو التفاعل السياسي أي النظم الدولية، ومنع تفاقم الاضطرابات والنزاعات أو خروجها عن إطار معيّن.
على سبيل المثال، يعلّمنا التاريخ، أنّ السبب الرئيس خلف انتهاء 'سلام المئة عام' (1815-1914) الذي أعقب الحروب النابليونية، وفي اندلاع الحرب العالمية الأولى بين الدول الأوروبية، كان نتيجة التغيّرات التي طرأت على نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الدولي أي على توازن القوى بين الدول الأوروبية - القوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي - وانتهاج ألمانيا لسياسات تغيير الوضع القائم. ولكن، ذلك لا يعني أنّ تلك الفترة لم تشهد نزاعات على الإطلاق، إنّما حتى خلال السنوات المئة الأخيرة من السلام، شاركت الدول الأوروبية في حروب محدودة وغزوات بهدف التوسّع الإقليمي، كذلك، دخلت في سباق التسلح بوتيرة متصاعدة بلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى.
وبعد عقدين من الزمن، اندلعت حرب عالمية ثانية بين القوى العظمى، كان أحد أسبابها البنيوية غياب قوّتين رئيستين، هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، عن مسارات توازن القوى لتثبيت الاستقرار العالمي، ما يعني غياب القوى القادرة على ردع ألمانيا من إعادة انتهاجها لسياسات تغيير الوضع القائم، أي حاجة القوى القائمة إلى إعادة تركيز القوّة واستقرارها بين عدد محدود من الوحدات المتشابهة وظيفيًّا.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، توزّعت القوّة في بنية المنتظم بين قطبين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ودام نوع من 'سلام بارد' بين الإيديولوجيتين الشيوعية والرأسمالية لأقل من نصف قرن، أي لم تحدث أي حرب مباشرة بين القطبين، لكن اتّسمت الحرب الباردة بالإنفاق العسكري الهائل، والأزمات الخطيرة، وحروب بالوكالة، وسباق التسلّح النووي، والتسابق الفضائي، ما أدى إلى استنفاذ قوّة الاتحاد السوفياتي. من هنا، فإنّ الاستقرار العالمي ينتج عن المسارات الوظيفية للمحافظة على توازن القوّة العالمي، ومتى تغيّر نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم يتغيّر توازن القوّة العالمي، بالتالي، يدخل العالم في فترة من الاضطرابات. ولكن، كيف يتغير نمط توزّع القوّة؟
يؤدي التطوّر التكنولوجي دورًا مهمًا في استقرار المنتظمات الدولية وانهيارها. صحيح أنّ كل منتظم دولي يُفتَرض أن يكون نظريًا مشيّدًا على أساس توازن القوى، ولكن، يختلف هذا التوازن من منتظم لآخر. فالتوازن بحسب توزيع الأقاليم بين القوى العظمى كما في القرن التاسع عشر، يختلف عن التوازن بحسب القدرات العسكرية أو الاقتصادية للقوى العظمى في القرن العشرين. من هنا، تضطلع القدرات التكنولوجية للقوى العظمى بدور جوهري في مسارات التوازن العالمي في القرن الحادي والعشرين، لأنّ سرعة التواصل والاتصال، والقدرة على التعبئة والجهوزية العسكرية والانتشار السريع حول العالم، والقدرة على الهجوم الاستباقي، جميعها تؤدي دورًا مهمًا في تحديد من هي الوحدات الأقوى داخل بنية المنتظم.
في القرن الحادي والعشرين، كان لمسار العولمة التكنولوجية والاقتصادية أثر جوهري على توزّع القوّة في بنية المُنتظَم[2]. فلم تعد القوّة في المُنتظَم محصورة بيد قوة مهيمنة أو عدد محدود من القوى العظمى[3]. إنّما انتقلت القوّة بشكل كبير في اتجاهين: الأول هو أفقي، أمّا الثاني فهو عمودي.
بالنسبة إلى الاتجاه الأول للقوّة، فهو نوعًا ما تقليدي أي يتكرّر دائمًا بشكل أفقي بين الدول، فبينما تصعد قوى جديدة تنحدر أخرى كانت قائمة (Power Transitions) . حاليًا، تنتقل القوّة من الغرب إلى الشرق، مع عودة القوّة الاقتصادية إلى آسيا، وبخاصة إلى روسيا والصين، لأنّ العولمة الاقتصادية والتكنولوجيا سمحت بتسريع عمليات الإنتاج في أي زاوية من العالم، ولم تعد هذه العمليات الإنتاجية محصورة بيد الغرب. بينما بالنسبة للاتجاه الثاني للقوّة جديد نسبيًا في العلاقات الدولية، ويحصل بشكل عمودي (Power Diffusion)، من الأعلى إلى الأسفل، أي من الدول إلى الفاعلين من غير الدول[4]. فبرزت وحدات من غير الدول لديها قدرات مهمة موازية لقدرات الدول، كون العولمة تُضْعِف قدرة هذه الأخيرة على التحكّم بحركة انتقال رؤوس الأموال والأفراد والمعلومات وتسهّل عبورها الحدود. بالإضافة إلى ذلك، ساعد الانخفاض في التكلفة التكنولوجية في انتشار القوّة إلى الفاعلين من غير الدول، عبر زيادة قدراتها العسكرية مثل تنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية في الشرق، وقدراتها الاقتصادية[5] كالشركات الاقتصادية العابرة لحدود الدول مثل General Motors، وارتفاع قدراتها التأثيرية في التفاعلات الدولية، نظرًا لامتلاكها قدرات توازي قوّة الدول.
من جهة، إنّ الانتقال الكثيف للقوّة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق نتيجة انتشار التكنولوجيا داخل البلدان النامية، خوّلها الإنتاج بكلفة أقل وكمية أكبر وبسرعة قياسية. لذلك، خلال العقود القادمة، سيستمر هذا الانتقال القوي للثقل الاقتصادي، الذي يشكّل سابقة نوعية على الساحة الدولية. ومع انتقال الثقل الاقتصادي إلى آسيا، ستطمح الصين وروسيا للتدخّل عسكريًا وإقليميًا ودوليًا، لحماية ممرّاتها وطرقها الاقتصادية الحيوية التي تسهم في تعزيز نموّها الاقتصادي، وتكييف المنتظم الدولي وقواعده بحسب رؤيتها للسلام العالمي. ومن جهة أخرى، مع انتشار التكنولوجيا عبر حدود الدول، ستعزّز التنظيمات الإرهابية الخطيرة قدراتها العسكرية، وستستخدم أسلحة جديدة لتنفيذ هجماتها كالأسلحة الكيميائية أو البيولوجية أو النووية كي تسعى إلى تحقيق مصالحها عبر الحدود.
إذًا، عمليًا، مع انتشار التكنولوجيا والمعرفة والمعلومات، تزايد عدد الدول القادرة على تصنيع معدات عسكرية متوسطة القوّة مما كان عليه الحال سابقًا. فالصين بدأت بإنتاج معدات عسكرية متطوّرة وتصديرها. كما أتاحت للدول صناعة أسلحة متطوّرة جدًا، وبخاصة الأسلحة النووية مثل باكستان. إنّ هذا من شأنه أن يجعل الدول الصغيرة والفاعلين من غير الدول أقل اعتمادًا أو أكثر استقلالية عن القوى العظمى، وأكثر قدرة على إلحاق الضرر بالقوى التي تهاجمها مهما كانت عظمة قوّتها.
وقد أسهمت العولمة التكنولوجية أيضًا في منح الديموقراطية للخبرات والمهارات العسكرية، مع انتشار وسائل الطباعة وإنتاج الكتب العلمية وانتشار المعلومات والأفكار بين الدول والفاعلين من غير الدول والأفراد، ما ساعدهم على تطوير خبراتهم العسكرية وتعزيز قدراتهم على محاربة قوى أكبر حجمًا منهم. فانتشار التكنولوجيا العسكرية الرقمية لم يعزّز القدرات العسكرية للصينيين والروس وحدهم، ولكن، عزّز أيضًا قدرات دول وتنظيمات وبات بمقدورهما الوصول إلى مسافات بعيدة وضرب أهداف بدقّة عالية. وهذا الانتشار النوعيّ للقوّة التكنولوجية طرحت معادلة جديدة أمام القوى العسكرية التقليدية خصوصًا الأميركية[6]. لكن، ولأنّ الدولة لا تزال الفاعل الرئسي على الساحة الدولية، سنركّز في النقطة الثانية على الانتقال الأفقي للقوّة أي بين الدول، لتحديد علاقته بالابتكار التكنولوجي وتداعياته على توازن القوى العالمي؟
ثانيًا: أثر الابتكار التكنولوجي والنّمو الاقتصادي في التوازن العالمي
إنّ ترجمة الاختراعات والابتكارات التكنولوجية التي تَنْتُج عن الروّاد والعلماء في المجالات الاقتصادية والعسكرية، تؤدّي إلى تعزيز القدرات الإنتاجية والقدرات العسكرية لحكومات دولهم، وتعزّز وضعيّتها ودورها في المنتظم وتدفعها للوصول إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مهمّة حول العالم. ثانيًا، إنّ الدول التي لا تحوّل جزءًا من قوّتها الاقتصادية إلى قوّة عسكرية لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى القوى العظمى، وبالتالي، لن تستطيع أن تغيّر نمط توزّع القوّة أو التوازن العالمي، والسياسات الدولية في بنية المنتظم الدولي.
قبل أفول القرن الثامن عشر، هزّت بريطانيا وشمال أميركا سلسلة من الابتكارات العلمية التي أدّت إلى تحوّلات سياسية عميقة طالت بنية المنتظم الدولي، فعدّلت في وضعية الدول التي كانت على شفير الانحدار وقوّتها كبريطانيا. قبل حدوث الثورة الصناعية كانت بريطانيا في مرحلة دقيقة بين السقوط أو الاستمرار كقوّة عظمى،بالأخص بعد أن خسرت مستعمراتها الأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. على أثر ذلك، رثى Horace Walpole رجل الدولة البريطاني، انحدار بريطانيا وشبّهها بدولة عديمة الأهميّة مثل الدنمارك أو سردينيا[7]. ولكن، تغيّر الوضع كثيرًا، بعد حدوث تطوّر مفاجئ لحلقات من الثورات الصناعية في بريطانيا على يد روّاد بريطانيين، Thomas Newcomen (1664-1729) و James Watt [8] (1736-1819)، عندما ابتكرا الآلات التي تعمل على الفحم والبخار، ورفعا القدرات الإنتاجية للحكومة البريطانية فحوّلتها إلى قوّة اقتصادية منافسة كبيرة، مكّنتها من تحويل جزء من قوّتها الاقتصادية إلى قوّة عسكرية مهمّة، دفعتها للوصول سريعًا إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مهمّة حول العالم كالهند والصين، وأسواق جديدة لتصريف فائض إنتاجها[9].
قبل الثورة الصناعية في العام 1750، كانت آسيا- التي تشكّل نصف سكان العالم ونصف الإنتاج الاقتصادي العالمي- هي مركز الصناعة حيث تستخدم اليد العاملة الرخيصة بينما كانت أوروبا السوق الاستهلاكي. ولكن، بعد الثورة الصناعية أي مع بروز الآلات في القرن التاسع عشر، أصبحت أوروبا مركز الصناعة وآسيا السوق الاستهلاكي للناتج الاقتصادي الفائض[10]، أي انكمشت حصة آسيا من الإنتاج الاقتصادي العالمي حوالى 20%. مقارنة بتلك الفترة، وتحديدًا قبل العام 1800، كان مستوى المعرفة العلمية والتكنولوجية مرتفعًا في آسيا - أكثر ممّا كان يحصل في بعض المجالات العلمية في أوروبا. أما من حيث التطوّر التكنولوجي، كانت الصين في وضع متقدّم جدًا قبل عصر النهضة الأوروبية وبعده. على سبيل المثال، في مجال الأسلحة النارية، والرصاص والحديد والصلب والساعات الميكانيكية والهندسة، ومعدات الحفر العميقة[11]. أيضًا، كانت آسيا قوّة صناعية مهيمنة بشكل خاص في منتجات القطن والحرير الهندية والصينية. هكذا، كانت للقارة الآسيوية مكانة بارزة في الصناعة العالمية في ذلك الوقت.
من هنا، وفق تقديرات المؤرّخ الاقتصادي Paul Bairoch في العام 1750، كانت حصة الصين من الناتج الصناعي العالمي 32.8٪، مقارنةً مع 23.2٪ لأوروبا، مع مستوى عدد سكاني من 207 مليون نسمة للصين، و130 مليون نسمة لأوروبا[12]. ففي العام ١٧٧٦، أشار Adam Smith، إلى أنّ الصين هو بلد أكثر ثراء من أي بلد في أوروبا[13]. ومن ناحية أخرى، شكّلت الهند والصين معًا 57.3٪ من الناتج الصناعي العالمي. وإذا أضيفت المساهمات الإنتاجية لدول جنوب شرق آسيا، وبلاد فارس والإمبراطورية العثمانية، كانت تشكّل حصة آسيا بالمعنى الأوسع (باستثناء اليابان) 70٪ تقريبًا من الإنتاج العالمي. أيضًا، يقدّر Bairoch أنّه في العام 1750 كان المستوى الإنتاجي للصين أعلى من المتوسط الإنتاجي لأوروبا، إذا أُخِذَ في الاعتبار عدد السكان في ذلك الوقت: في الصين، كان نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي 228 دولارًا أميركيًا، مقارنة مع 150-200 دولار أميركي في البلدان الأوروبية[14].
هكذا، في العام 1750، ساهمت آسيا في إنتاج حوالى 80٪ من الثروة الاقتصادية في أنحاء العالم جميعًا، مع نسبة سكان تصل إلى 66٪ تقريبًا. وبعد خمسين سنة، كان نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في الصين وأوروبا متقاربًا، حيث كانت إنجلترا وفرنسا، الدولتين الأوروبيتين الوحيدتين، اللتين كان فيهما درجة الناتج الصناعي للفرد أعلى قليلًا من درجة الناتج الصناعي للفرد في الصين. وكما أشار Andre Gunder Frank، كانت الصين والهند المنطقتين الكبيرتين الأكثر مركزيةً في الاقتصاد العالمي، بينما أدّت القارتان الأوروبية والأميركية دورًا تجاريًا محدودًا جدًا في تلك الحقبة.
ولكن، مع الثورة الصناعية، تغيّرت المعادلة الدولية، فبدأ الأوروبيون بالبحث عن أسواقٍ لتصريف فائض إنتاجهم[15]، بفضل الآلات التي سرّعت وكثّفت عملية الإنتاج المحلي. فسخّرت القوى الأوروبية، وبشكل خاص بريطانيا، قوّتها العسكرية للتوسّع الاستعماري لتصريف إنتاجها، فتوصّلت إلى احتلال 35% من العالم بفضل هذه الثورة الصناعية[16]. كما اشتدّت المنافسة الاقتصادية والعسكرية بين الدول الصناعية العظمى حول الأسواق الخارجية-المستعمرات، لأنّ النموّ الاقتصادي وزيادة الإنتاج، اللذين نتجا عن الثورة الصناعية، رفعا نسبة الطلب على المواد الأولية وعلى الأسواق الخارجية لتصريف منتجاتهم. وكانت حرب القرم 1853-1856 أول دليل على التطوّر التكنولوجي للصناعات الحربية المحترفة[17].
نتيجةً لذلك، أدّت هذه العملية إلى انتقال الثقل الاقتصادي العالمي من آسيا إلى أوروبا. فبعد أن كانت تشكّل الهند والصين أكثر من ٥٣٪ من الاقتصاد العالمي في العام ١٨٠٠، أصبحتا تمثّلان ٧.٩٪ فقط في العام ١٩٠٠ [18]. كما أنّ تحويل القوى الأوروبية لجزء من قدراتها التكنولوجية والاقتصادية لصالح قوّتها العسكرية رفع وضعيتها الدولية، ما أدّى إلى تغيّر نمط توزّع القوّة أو التوازن العالمي، والسياسات الدولية أي الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي.
ولكن، استمرّ التوازن العالمي بالتغيّر مع كل تطوّر تكنولوجي - صناعي حصل داخل أقاليم القوى الدولية، لأنّ حصّة الدول من الاقتصاد العالمي غير متساوية تبعًا لمدى تطوّرها تكنولوجيًا، بالإضافة إلى عوامل أخرى. فإنّ ارتفاع حصة القوى من مجموع الاقتصاد العالمي سيكون دائمًا على حساب قوى أخرى. فكلّما ارتفع نموّ الدولة الاقتصادي، كلّما ازدادت قوّتها ومساحة تحكّمها الإقليمي، ونفوذها السياسي وموقعها داخل المنتظم الدولي، وذلك لا يكون إلّا على حساب قوى أخرى. أيضًا، تسعى القوى تلقائيًا إلى التوسع إقليميًا لتصريف الفائض الاقتصادي الناتج عن ارتفاع قدراتها الإنتاجية، للوصول إلى أسواق جديدة وحمايتها مع الممرات الجيو-اقتصادية المؤدّية إليها من المنافسين المحتملين. مثلًا، بعد العام ١٨٩٥، بدت النخبة السياسية الحاكمة في ألمانيا مقتنعة بالحاجة إلى التوسّع إقليميًا والتمدّد عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا على نطاق أوسع، فالمسألة لم تعد خيارية، إنّما حيوية، لاسيما وأنّ النموّ الاقتصادي والتقدّم الصناعي كانا بأوجهما في ألمانيا. من هنا، أعطى النموّ الاقتصادي الألماني الدولة القدرات العسكرية اللازمة لتغيير الوضع القائم. على الرغم من أنّ القوّة البحرية لألمانيا لم تتساوَ مع قوّة بريطانيا، إلّا أنّها قد تخطّت القوة البحرية لفرنسا وروسيا[19].
من هنا، يعود أحد الأسباب الجوهريةفي اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى صعود ألمانيا، كقوّة اقتصادية ذات قدرات إنتاجية منافسة لفرنسا وقريبة جدًا من قدرات بريطانيا العسكرية، ومحاولتها لتغيير الوضع القائم في المنتظم الدولي القائم على توازن معيّن للقوى - تقاسم معيّن للأقاليم - التي لم تكن ألمانيا راضية عنه، وعبّرت عن ذلك بسياسة خارجية ثورية. لذلك، اندلعت الحرب بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية.
ولكن، يمكن تلخيص هذه التحوّلات في مثل آخر أقرب تاريخيًا لحقبتنا، ويجمع بين ما حصل في آسيا وأوروبا من حيث تأثير التطوّر التكنولوجي على نموّ الدولة اقتصاديًا وعسكريًا من جهةٍ، وعلى نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم والسياسات الدولية بشكل عام من جهة أخرى. قبل انهيار جدار برلين في العام ١٩٨٩، لاحظ الاتحاد السوفياتي أنّ الفجوة التكنولوجية - العسكرية والاقتصادية بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية بدأت تتوسّع بشكل ملحوظ وبالأخص في مجال التكنولوجيا الرقمية، لا سيّما وأنّ إمكانات الأخيرة العسكرية التدميرية تساوي قدرته في مجال الأسلحة النووية التكتيكية، ما دفع به إلى الاعتراف بعدم قدرته على منافسة واشنطن في هذا المجال، لذلك، بدأ البحث في إمكانية التقارب السياسي معها ليتمكّن من اللحاق بها في مجال حاسم للمنافسة العسكرية[20].
نستنتج أنّ ما وصلنا إليه اليوم ليس نتيجة بضع سنوات من التغيرات الدولية، إنّما نتيجة عدة قرون من الابتكارات والثورات الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت تغيّرات عميقة في بنية المنتظم السياسي الدولي والتوازن العالمي، دفعت بدورها إلى بروز توازن جديد في كل مرة تطرأ تحوّلات مهمّة تعيد توزيع القوّة في بنية المنتظم. كما أنّ نموّ الاقتصاد الدولي، والقدرات الإنتاجية التي رفعتها الثورة الصناعية والتكنولوجية، والتي تركت أثرها في مجال التكنولوجيا العسكرية والبحرية مع مرور الزمن، أدّت إلى تغيير توازن القوى العالمي بشكل ملحوظ. لذلك، لا يمكن تجاهل دور ابتكارات الأفراد والتحوّلات التكنولوجية على التوازن العالمي والتي لا زالت حتى يومنا هذا، وبخاصة عندما أصبح تعزيز القدرات العسكرية للقوى يعتمد بشكل كبير على نموّ قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية، أي قدرتها على تخصيص جزء من قوّتها الاقتصادية لصالح تعزيز قوّتها العسكرية[21]. فكلّما ازدادت ابتكارات الأفراد تنمو القوّة الاقتصادية لحكومتهم، فترتفع قوّة تأثير هذه الأخيرة على التفاعلات الدولية، وبالتالي تتغيّر حسابات القوى الأخرى لها.
كذلك، إنّ استخدام عدد من المؤشرات لقياس قوة الدول، بشكل خاص مؤشرات لقياس قدرتها على الابتكار وقوّتها التكنولوجية والاقتصادية، على فترة تاريخية محددة، تمكّننا من رؤية التحوّلات في موازين القوى العالمية وديناميكية التفاعلات الدولية بين القوى – الصاعدة والمنحدرة – داخل بنية المنتظم الدولي. لذلك، سيؤدي اختلال التوازن في الابتكار التكنولوجي والنموّ الاقتصادي بين القوى العظمى سيغيّران في توزّع القدرات في ما بينها على المدى الطويل. مثلًا، في حال تراجعت القدرة على الابتكار التكنولوجي للولايات المتحدة الأميركية ستتضاءل قوّتها الاقتصادية وقدرتها التنافسية، وبالتالي سوف تنخفض النسبة المخصصة للإنفاق العسكري، ما سيؤدي إلى تراجع وضعيتها ودورها وهيبتها عالميًا، مقابل صعود لقوى أخرى منافسة أكثر قدرةً على الابتكار التكنولوجي وذات قدرات اقتصادية وعسكرية مهمة. إذًا، هل يمكن لهذه المقاربة النظرية التي تلتها مناقشة تاريخية ليست مطوّلة لأهم الأحداث العالمية من أن تشرح لنا المسار المستقبلي للسياسات الدولية، ونمط السلوك العام للقوى القائمة والصاعدة في العقود الثلاثة القادمة؟
مستقبل المنتظم الدولي: الحرب أم المنافسة كطريق للسلام العالمي؟
أولًا: العولمة التكنولوجية تعزّز وضعية بكين مقابل واشنطن
إنّ الانتقال الأفقي للقوّة أو الثقل الاقتصادي العالمي في بنية المنتظم، الذي سهّلته وشجّعته ونظّمته قواعد المنتظم الليبرالي، مستمد من مصدر مهم: انخفاض تكاليف الإنتاج في الدول الآسيوية التي تمتلك يدًا عاملة ذات حجم كبير ورخيصة، والتي جذبت المستثمرين في الدول الصناعية الغربية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، إلى الاستثمار مباشرةً في الأسواق الوطنية للدول النامية، وبشكل خاص في الصين والهند، ونقل مراكز التصنيع الخدماتية والتكنولوجية إليها، ما سمح بتراكم قوّتها الاقتصادية بشكل هائل على المدى الطويل.
ومع انتقال مركز الإنتاج إلى آسيا، نجحت دول شمال شرق آسيا في تحديث أنشطتها الاقتصادية خلال الفترة الممتدة بين العامين ١٩٧٠ و١٩٨٠. بدأت الصين تنمو اقتصاديًا وتؤدي دورًا رئيسًا في الاقتصاد العالمي، بعد أن حافظت على ٢٠ عامًا من النموّ الاقتصادي المستمر في الداخل، ما أدّى إلى تراكم القوّة الاقتصادية لديها، وتحوّل هذا البلد الشاسع إلى نواة جوهرية لنموّ الاقتصاد الإقليمي والعالمي ومركز محوري للتجارة الإقليمية والدولية. ولكن، إنّ حجم الإنتاج الاقتصادي في آسيا عمومًا والصين خصوصًا، أعاد طرح الكثير من التساؤلات المقلقة عن مستقبل الاقتصاد الليبرالي العالمي المتمركز في الغرب، وعن انتقال الثقل الجيواقتصادي نحو آسيا، وما سيرتّب على المدى الطويل من تحوّلات في توازن القوى العالمي بشكل جوهري، وتداعيات ذلك على مستقبل المنتظم والنظم والقواعد والمبادئ الليبرالية الدولية. فمع انتقال القوّة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، كنتيجة تلقائية لانتقال مصادر الإنتاج والتكنولوجيا العالمية، ستمتلك بكين قوّة سياسية مهمة في بنية المنتظم تدريجيًا[22]، ما سيخوّلها ثني مبادئ التفاعل السياسي وقواعده التي وضعتها واشنطن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدريجيًا، لأنّ القوى العظمى هي مَن تحدّد قواعد السلوك الدولية، وهي مَن تقرّر مَن يجلس على طاولة المفاوضات الدولية، ومَن يدير الشؤون الدولية عبر استخدام قوتها ونفوذها في صياغة قواعد اللعبة أو قواعد التفاعل السياسي بين الدول[23]. لذلك، فإنّ صعود الصين سيؤدي إلى البحث عن نفوذ أكبر داخل نُظُم الإدارة الدولية، لصياغة الأجندة الدولية وآلية اتخاذ القرارات، ووضع مبادئ التفاعلات وقواعدها، وإعادة توجيه مسار السياسات الدولية، وبالتالي يتغير نمط المنتظم الدولي تدريجيًا.
على الرغم من ذلك، انقسمت الإدارة الأميركية حيال مسألة صعود الصين، إلى فئتين: الأولى، فئة المتفائلين، كانت ترى في صعود الصين كقوّة اقتصادية رأسمالية قادمة ذات سوق اقتصادي ضخم ومزدهر، سوف يؤدي إلى جعل مؤسساتها السياسية ديموقراطية وتخلّيها عن المبادئ الشيوعية للانضمام إلى نادي الدول الليبرالية - الديمقراطية. أما الثانية، فئة المتشائمين، فكانت تشبّه صعود الصين بالتنّين الشيوعي العظيم الأخير الذي يهدّد الاستقرار في آسيا والعالم، أي يحاول أن يغيّر الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي.
لكن واشنطن اصطدمت في الواقع مع بكين، التي لا تتبع الأنموذج الليبرالي الغربي للتنمية السياسية والاقتصادية بحذافيره، إنّما أنموذج هجين يعرف بـ State Capitalism الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية والسلطوية السياسية، فحاولت أن تُخْضِع منافسيها الرأسماليين وتستميلهم من خلال استخدام قوّتها الاقتصادية الضخمة وأسواقها الواسعة، لثَنْي قواعد التفاعل السياسي أو قواعد اللعبة وكسرها، وصياغة نظم وقواعد دولية جديدة من أجل تنظيم التفاعلات الدولية وتوجيهها[24]. فبكين ترفض دائمًا الالتزام بقواعد السلوك الدولية لأنّها صيغت في حقبة كانت غائبة عن الساحة الدولية[25]. لذلك، واصلت بكين تحقيق مصالحها القومية من دمبالغة لقواعد اللعبة والمعايير العالمية، كبناء جزر في المياه الدولية المتنازع عليها ومضايقة الطائرات الأميركية في بحر الصين الجنوبي[26]، ودفع واشنطن إلى أقصى أطراف آسيا والمحيط الهادئ، من خلال إظهار نيّتها في نشر قوّتها العسكرية لإعادة ترسيم الحدود في البحر الصيني الجنوبي.
كما اقتنصت بكين من الأزمة المالية العالمية، في العام 2008، فرصة مهمة لتبرز كقوّة سياسية اقتصادية نموذجية عالمية بديلة لواشنطن والدول الغربية التي لم تعد الدول النامية تحتذي بها، بعد أن أظهرت أنّ الاقتصاد الموجّه من الدولة يتفوّق على الاقتصاد الحر. لذلك، قرّرت التخلّي عن سياسة العزلة التي انتهجتها لعدة عقود، والبدء بالخطوات الأولى للدخول مباشرةً في تكوين مسار التفاعلات الدولية وإدارته وتصويب اتجاهه. فقوّت صوتها في المؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تمهيدًا لتعزيز وضعيتها مقابل واشنطن في بنية المنتظم الدولي . وعلى الرغم من أنّ القدرات التأثيرية لهذه الأخيرة وحلفائها ما زالت قوية داخل تلك المؤسسات، والآليات والأهداف التي تعمل على أساسها في النظم الدولية، كالديمقراطية والشفافية، تقوّض سلوك الصين وأمنها، لم تخرج الصين من هذه المؤسسات الدولية الليبرالية مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن، إلّا أنّ عدم اكتفائها بالتغييرات التي طالبت بها داخل المؤسسات الدولية، دفعتها إلى إنشاء نظم ومؤسسات دولية رسمية وغير رسمية بديلة، مثل بنك التنمية الجديد (BRICs/NDB) والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، الذي ينوي بوضوح منافسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكسب المزيد من التأثير في المنتظم الدولي الحالي، من خلال زيادة مساعداتها الإنمائية وتطويق أوراسيا بالعقود التجارية وقواعد التفاعل الجديدة التي تبرز بالتوازي مع الطرق التجارية، وسِكك الحديد وأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية، وكابلات الألياف الضوئية، ومختلف البُنى التحتية، التي يمكن اختصارها بمبادرة الحزام والطريق الصينية. أيضًا، ما يميّز هذه المؤسسات الدولية هو أنّها تتضمّن قيم ومبادئ آسيوية، إلّا أنّها تخطّط لبناء آليات تحكيم جديدة لتسوية المنازعات الدولية جميعها التي قد تنشأ عن خطط تمويل مبادرة الحزام والطريق (BRICs) الذي يمرّ عبر ٦٩ دولة، سواء للأطراف الصينية أو الخارجية، من خلال النظام القضائي الخاص في الصين، وفي ثلاث محاكم أُنشئت تحت سلطة المحكمة الشعبية العليا.
بناءً على ذلك، إنّ اهتمام واشنطن وبخاصة في السنوات الأخيرة في المحافظة على المنتظم الليبرالي العالمي الذي تقوده بنفسها، من خلال المحافظة على قواعده وتوسيع نطاقه الجغرافي، دفعها إلى قلب هذا المسار عبر اتّخاذ سياسات حمائية وإغلاق حدودها أحاديًا، وفي بعض الأحيان بالتعاون مع دول أخرى، لإضعاف بكين اقتصاديًا تمهيدًا لإجبارها على اللعب بحسب القواعد السياسية الليبرالية. إلّا أنّ مشكلة واشنطن ليست مع صعود الصين كقوّة اقتصادية بقدر ما هي مع سلوكها كقوّة غير ليبراليّة تسعى للزعامة في منتظم ليبرالي. لذلك، تنظر الأولى إلى سلوك الأخيرة كتهديد لأمنها القومي، وبالأخص لناحية منافستها اقتصاديًا وعسكريًا[27] ومؤسساتيًا. فما تريده واشنطن هو رؤية بكين تتفاعل داخل المنتظم الليبرالي بحسب قواعد اللعبة التي وضعتها بنفسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
من هنا، قرّرت واشنطن منع انتقال القوّة التكنولوجية إلى آسيا بشكل رئيسي. فعمليًا، إذا استمرت الصين باستقدام الابتكارات التكنولوجية الغربية إلى أقاليمها، من دون أي عقبات خطيرة، ستتمكّن في العام ٢٠٢٥ من أن تصبح رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، واستعمار الفضاء، والتكنولوجيات الإحيائية - بما في ذلك خطة لبناء أكبر شبكة 5G في العالم، كما ستستعيد في العام ٢٠٥٠ وضعيّتها التاريخية في الإنتاج لأنّ التقدّم التكنولوجي السريع سيزيد من وتيرتها الإنتاجية، بتكلفة قليلة وأسعار وجودة تنافسية في الأسواق العالمية، وبشكل خاص مع التطوّر الذي يشهده مجال الذكاء الاصطناعي الذي سيدفع إلى منافسة اليد العاملة، في الإنتاج والتكلفة والجودة عالميًا. بكلمات أخرى، إذا استمرت الصين في استقدام الابتكارات التكنولوجية، ستتمكن من تخطّي واشنطن اقتصاديًا وعسكريًا، لأنّ التقدّم التكنولوجي السريع سيزيد من وتيرة التغيير في توزّع القوّة الاقتصادية والعسكرية بين القوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي.
لذلك، قرّرت واشنطن فرض قيود صارمة على التجسّس الصيني وسرقة الملكية الفكرية، خصوصًا من الشركات الأميركية الأكثر ابتكارًا، وزيادة التعريفات على رقائق الألومنيوم وفرض تعريفات جمركية صارمة على واردات الصلب/الفولاذ لتقويض النموّ الاقتصادي لبكين. فالتفاوت في وتيرة النموّ الاقتصادي بين بكين وواشنطن، في ظل استمرار استقدام الابتكارات التكنولوجية إلى آسيا، يعني أنّ الأولى ستصعد بينما الأخرى ستنحدر نسبيًا. لذلك، استباقًا لأي تحوّل جوهري في توازن القوى العالمي، فتحت واشنطن تحقيقًا رسميًا في الممارسات المتعلّقة بالملكية الفكرية الأميركية في بكين، بعد أن قدّرت الخسارة السنوية للاقتصاد الأميركيّ من السلع المقلّدة والبرمجيات المقرصنة وسرقة الأسرار التجارية بنحو 600 مليار دولار أميركي[28]. إضافة إلى ذلك، قدّمت واشنطن شكوى أمام منظمة التجارة العالمية لمعاقبة الصين على النقل القسري للتكنولوجيا من الشركات الأميركية إلى مصانعها؛ ما سبب خسارة إجمالًا تقدّر بتري
المصدر: lebarmy.gov.lb
الاشتراك في الرسائل الإخبارية !
يرجى إدخال البريد الإلكتروني الخاص بك و الاسم للانضمام.
لإلغاء الاشتراك اضغط هنا ».